استرجعت قرطاج بريقها و ازدهارها بعد تدميرها و قد عاد ذلك لتمكّنها من السيطرة على البحر وعلى التجارة و بما أنّ تقاليدها الصناعيّة والزراعيّة كانت ثرية فقد استطاع الرومان أن يطوّروا هذه المكاسب بفضل ما وفّروه من السلم والأمن و تركيزهم على تنمية الأرياف والمدن من قنوات وخزّانات للماء و جسور وسدود و توسيع المزارع و بناء المعاصر.
ولكنّنا كلّما تحدّثنا عن الحضارة الرومانية بتونس قفزت إلينا عدّة أسئلة لعل أهمّها كيفية تعليم أبناء الرومان فنبحث بين المراجع و المصادر الشحيحة عن الخاصيات العلمية و التعليمية لتلك الفترة ، فقد ذكر الدكتور عمار المحجوب في كتابه " البلاد التونسية في العهد الروماني " أنّه في تلك الفترة كان الفتى و الفتاة يتلقيان : " تعليما ظلّ حكرا على الأغنياء و كان " معلم الابتدائي " يتولّى تلقين أطفال الطبقات الوسطى مبادئ علم الحساب و القراءة و الكتابة باستعمال قلم من القصب على لوح صغير أو بسنان على الصحيفة من الشمع ، و مصطلح " الطبقات الوسطى " يجمع الغني و الميسور صاحب الضيعة الشاسعة و الضيعة المتوسّطة ثم نجد في ذيل الترتيب صاحب الحقل المتواضع و الدخل البسيط من سكان المدن الصغيرة.
كما نجد في نفس المصدر أنّ : " أهم المدن تزخر بالنقائش على واجهات المعالم و على التماثيل و الأنصاب ، للإشادة بالأباطرة و الولاّة و لتمجيد النبلاء و الوجهاء و ذكر مراتبهم و مناصبهم و ألقابهم ، كما تزخر المقابر بالشواهد التي تورد في نصوصها أبياتا من شعر و كلمات متناثرة نُقشت على الجدران أعدّها بعض العرّافين لوقاية زبونه من العين الشرّيرة أو للتوسّل إلى الشيطان كي تكيد لأعدائه و تفتك بهم و في غزارة هذا الكم من النقائش تأكيد على أنّ عددا هاما من الصبية ، ذكورا و إناثا ، كانوا يراودون معا مدرسة " معلّم الابتدائي لكنّ هذا العدد يتضاءل عندما يبلغ الصبية السنة الثانية عشر من عمرهم عندها تصبح الدراسة حكرا على أنجال الأغنياء و على الذكور فحسب باستثناء بنت بعض الأثرياء ، إذا ما حظاها والدها بتكليف مدرّس يتردّد على بيتها لتلقينها النصوص الأدبية الكلاسيكية و البنت عند الخاصة تقبع لا محالة في البيت ، إذا ما بلغت هذا السن و صارت على أهبة الزواج ، فلا شغل لها سوى العمل المنزلي و غزل الصوف الذي تردّدت صورته على لوحات الفسيفساء مع تكريس وقت طويل للتجميل و التبرّج .".
ثم نجد أنفسنا في عمق بحثنا نتساءل عن الثقافة الرومانية و أيّ الخصوصيات التي تميّزها ؟ كيف يهتمّون بالمثقّفين ؟ و بأيّة مكانة يحظون ؟ و هنا يذكر عمّار المحجوب في نفس الكتاب أنّه : "... قد كان على كل مثقف أن يلمّ بقصصها إجمالا ، بينما كان بعضهم يفخر بمعرفة أدقِّ تفاصيلها دون أن يصحب المعرفة اعتقادا و إيمانا بآلهتها أو قناعة بصحة قصصها و عجيب رواياتها ,.. و كان على الطفل أن يحفظ قدرا من شعر " ورجيلونس " و أن يشرح نصوص " قيقرو " و أن يطلع على ما ذاع صيته من نتاج معاصريه ، و إذا ما كانت أسرته ميسورة و رام الانتماء على معشر المثقّفين فدراسة اللغة الاغريقية و آدابها كانت تعدّ من اللزوميات ، لأنّ الاغريقية كانت طيلة العهد الروماني لغة الثقافة و العلم ، و لغة الكنوز الأدبية و المذاهب الفلسفية و لغة تدريس الطب و العلوم ."
غير أنّ مراحل الطفولة ليست سوى تهيؤ للفتى أو الفتاة الرومانية حتى تتشكّل حياتهما بطريقة جديدة فمع تغيّر الملامح تغيّر في الملابس و تغيّر في المحاور الدراسية " ... و عندما يبلغ الطفل سن الرابعة عشر يترك ثياب الطفولة و ينزع قلادة العنق و تمائمها و يتهيّأ لفترة المراهقة فينتقل إلى آخر مرحلة التعليم ، مرحلة " الرّيتور " الذي يتولّى تلقينه نهج الفصاحة و فن الخطابة ، مستشهدا بالبليغ من النصوص الأدبية و بالفصيح من الخطب الشهيرة و للبلاغة عند فئة الوجهاء بالغ الاعتبار ، فيفخر بكسبها الطفل الذي يلقّن وصفة تلخّص قواعدها و قد تصوّره نحوت التوابيت وهو يلقي خطبة بين يدي والده ماسكا باليسرى كتابا يرمز إلى ثقافة الفئات الوجيهة و رافعا اليمنى اقتداء بحركات الخطباء .. " ومهما كانت عيوب هذا التعليم ، فإنّ وجهاء المدن و أثرياءها كسبت بفضله زادا من الثقافة اللاتينية سمح لها بالتميّز و السموّ عن العام .